تعز اليوم
نافذة على تعز

فنتازيا

نذير العاقل_ تعز اليوم: 

حدث ليلة أمس أن فتاة جميلة كانت تتمشى في إحدى شوارع باريس ، قطعة من الجنة تخيط الرصيف بخطوات متزنة ، ونظام مستتب ، ممسكة بإحدى يديها كتاب على ما يبدو من خربشاته الخارجية أنه مكتوب باللغة العربية ، كنت أراقبها سلتة من الجهة المقابلة للشارع ..عزمت إلا أن أعرف ما هذا الكتاب العربي الذي يجول في شوارع باريس ، على يد فتاة أقل ما يقال عنها أنها فاتنة ..قطعت الشارع بسرعة المتلهف لشيء ما يحدث لأول مرة أمام عينيه ، وقفت أمامها بكل ثبات ، وبعد أن أتممنا مراسيم التحايا والسلام ، باشرت بالسؤل عن الكتاب ..ارتسمت على سحنتها ابتسامة كل من يسكن في باريس ..”ياه ..الكتاب ! ليس لي ..إنما هو كتاب زميلي في الجامعة ، على حد قوله أنه يمنيا ، بل هو كذلك بالفعل ، وقد خرج اليوم في رحلة قصيرة ، وحمّلني كتابه هذا أحتفظ به إلى الغد ” .. قلت إنها صدفة رائعة أن أجد واحدا من ” البلاد ” له علاقة بهذا التشابك أيضا ..طلبت أن تقلب لي وجه الكتاب لأتمكن من قراءة العنوان بوضوح ، وبعد أن فعلت ، عرفت أنها رواية ” حرمة ” لأحد الكتاب اليمنيين ..رفعت رأسي محدقا في عينيها بصمت ذلك الليل الأهيم ، وبالخيبة التي يحملها كل بؤساء فرنسا ..ومن دون أن أنبس بكلمة ، سحبت جسدي بعيدا عنها قليلا ، وإذا بي أرى سقراط يلوح لي في الطرف الآخر من الشارع ، توجهت إليه متناسيا تلك الفتاة تماما ، كأنها لم تكن .
واصلت المشي معه ، نتجاذب أطراف الحديث ، و بدأ سقراط يحدثني عن أشياء كثيرة ، قلما كنت أفهم ما يقوله وهو يثرثر بمصطلحات فلسفية ، تتكرر فيها كلمات مثل : الضرورة والعلة والموضوع وجوهر الأشياء وعارضها ، و بعد مرور خمس دقائق من عدم الفهم ، سمعت فجأة اسم “مصطفى المومري ” من على شفتيه ، يا إلهي ! سقراط بكله ، أيضا ، يتحدث عن هذا ! تساءلت بدهشة غريبة ..ثم عدت لألتقط بقية الحديث ..كان يتحدث عن الخلاطة والحمق التي يتصف بها هذا الرجل ، عن الدّوقانية المقيتة ، على حد قوله ، التي تكتسح هذا المجتمع وتحوله إلى كومة من التفاهة والفساد ..كنت منصتا لكلامه بكل وقار ، مطبقا شفتاي ساحبا معه ذلك الرصيف خطوة خطوة ، همسة همسة ..كيف لا وهو سقراط ؟؟ قطعنا مسافة ما يقارب كيلو ، هو بدوره ينظر ، وأنا أنصت بكل احترام ..وبعد أن أسقط ذلك الرجل المسكين إلى الحضيض بمصطلحاته العميقة التي لم أفهم منها سوى أنها ليست لصالح ما يفعله الرجل ..توقف برهة وقال : دعك الآن من هذا الكائن البذيء ، وأخبرني ما إن كنت قد قرأت رواية ” حرمة ” أم أنك ما زلت غارقا ببلاهة هؤلاء الناس ..؟؟ لم ينتظر مني جوابا ، وكان هذا من حسن حظي ، واصل السير وبدأ يسرد لي عن تلك الرواية العظيمة التي حظيت بدهشته وإعجابه ..لم أكلف نفسي ، حينها ، بالاستفسار عن محتوى ومضمون تلك الرواية ، أعرف أنه بعد شرح المبررات ، التي قد سمعتها من قبل ، على لسان الكثير من رفقته أمثال أفلاطون وهيردوتس وأكتافيوس ، تلك المبررات التي تقول برغم كل شيء ، إلا أنها عالجت قضية وتستحق القراءة بكل تأكيد ..أيضا من دون أن أكلف نفسي بالسؤل عن سبب حشو تلك الرواية بأغنية أم كلثوم التي لا تربطها مشاهد بورن ولا القضية ، التي لا أعرفها ، بصلة .
في تلك اللحظات وبينما هو مستمر بالثرثرة المعروفة ، أشرت إلى سيارة أجرة كانت قد أقتربت قليلا من الرصيف ..وكما حدث مع تلك الفتاة ، فتحت باب السيارة أيضا متناسيا سقراط على رصيف ، وهو ما زال يثرثر ظنا منه أنني لا زلت أمشي معه واستمع إليه ..تمددت على كرسي السيارة مثل رجل أصابه الإعياء وأثقل كاهله ، وتمتمت بكلمات رجل محتضر ..إنطلق حيث تشاء ، لا مكان لأذهب إليه ولا وجهة أقصدها ..إنطلق فحسب ..ابتسم السائق وواصل السير وهو يضحك ..كان سبب ضحكته الأخيرة تلك هو رؤية ذلك العجوز المدثر بالسترات على الرصيف وهو يتحدث مع نفسه كما لو أنه بصحبة أحد ما ..سألني أتعرفه ؟ نعم ، إنه إحدى الفلاسفة الفارغين الذين لا تفهم من كلامهم سوى أنك لم تفهمه..ابتسم ثانية وقال : إلى أين تريد بالضبط ؟ إلى سعوان ..أذهب إلى سعوان هناك عمارة مهجورة يوجد بها “طربال” ممزق ، “وتنك” قديم تشبه تقاسيم جسده وجه عجوز تجاوز القرن من عمره ، لفني بالأول وأحشو رأسي بداخل ذلك ” التنك ” وأذهب حيث تريد .
دعكم الآن من هذه الفنتازيا أصدقائي العميقين ( أصدقائي البسطاء معنى كلمة فانتازيا أي أسلوب أو شكل معيّن يؤلف وفق خيال المؤلف ، ولكن هناك تيار آخر ، غيرنا نحن البسطاء ، لا يريدها إلا على هذا النحو ..فانتازيا ) نعود إلى العميقين .. نعرف أنه لم يعجبكم الذي حصل ، ولا داعي للشرح والتطويل ، بما أننا قد أطلنا ..وأخذت الأحداث وقتها الكافي .. إنما فقط أود أن أخبركم أن العمق عملة لا نطيقها فعلا ، على الإطلاق ، ليس على أفواه الأخرين ..ليس على ألسنتكم أنتم ربما ..وإنما على أسلوب حياة تخصنا نحن ..من حقنا أن نعيش حياتنا مثل ما نشاء .. ليس من حق أي منظر أو فيلسوف أن يسيّر حياتنا على هواه ..نظرتنا للحياة بسيطة ، أحسبوها كيفما يحلو لكم ..نلعن سقراط وأفلاطون وتوما و كانط و لا يعنينا من فلسفتهم في شيء ..الحياة من جهتنا بسيطة ولا تحتاج لأي تعقيد ، لسنا متفائلين ولا متشائمين ..لا حزن ولا فرح ..فقط نعيش ..نضحك ..ونسخر من كل شيء .
كنت في الأيام الماضية برفقة الكثير من العمقين ، الذين تطول أحاديثهم المتشابكة ، تلك التي لا يفهمها أحد سواهم ، من الثالثة عصرا حتى الثالثة صباحا ..الحديث عن الثقافة والفلسفة والشعر والأدب … تلك الأحاديث التي تعرفونها جيدا ، من مشاريع الفيس وقضاياه المتمثلة بشتم أولئك الخرفان الذين يرفعون فتيات ويسقطون عظماء ، و إلى غراميات البؤس والانتحار والاندثار والضياع في خازوق يسمى اليمن ..عندما كان يأتي الصباح وعيوني مسمّرة على سطح الغرفة لا أفكر إلا في الانتحار و المطلق والديمومة والكينونة وما سر الثقب الأسود ..ولماذا أنا لا أعرف سره بالضبط ؟ برغم عدم المبالاة التي أعيش بها منذ يفاعة سني إلا أنني فعلا تأثرت ..كنت أذهب إلى السوق أحيانا مرتين ..أتغدا مرتين وأخزن مرتين ..وأنظر إلى وجوه العابرين ويقشعر بدني وهو يتنهد بجملة ..يا لها من حياة بائسة حقيرة !
في أيامي الأخيرة ، تعرفت على الأصدقاء الحقيقين الذين أنتمي إليهم فعلا ، البسطاء الذين رغم إطلاعهم الواسع وقراءتهم النهمة إلا أنهم ليسوا مبالين بشيء ..لا ينظرون عن أشياء قد حسم أمرها منذ زمن ..ولا يفكرون بالبؤس لأنه لن يكون منه شيء ..أنتمي إلى هؤلاء البسطاء ، الذين لا ينظرون لنا من بعيد ..لا يمتطون الجياد ولا يسكنون الأبراج العاجية ..البسطاء برغم ذكائهم وفطنتهم ومشاعرهم الجياشة وحنانهم الذي لم أجده في مكان .
نعم نكره العمق ، نقرأ الروايات ولا نسنح يوما لأنفسنا بالتحليلات العميقة والتقييمات الفذة التي نشطح بها أمام صاحبنا المسكين المستمع بصمت ، الذي هو أيضا قرأ الرواية ولكنها يقف مذهولا ، لا يعرف من أين أتى هؤلاء بهذا الكلام رغم أنه قد قرأها بالفعل ..كلا !
ذات ليلة كنت برفقة أصدقائي البسطاء ، وقت الصمت الهدوء والساعة السليمانية كما نسميها ، قال أحدهم للأخر : عرف السيل ؟! أجابه بكل جدية وعيون قاطبة ..هو ما دل على أثنين أو أثنتين بزيادة ألف ونون أو ياء ونون ؟ يبدو أنه تعريف لا منطقي بالنسبة لكم ..ولكنني بت سعيدا بهذا التعريف طوال الليلة ..يا لها من مداخلة جبارة ، تكسر ملل كل ما أضعته من عمري برفقة أهل العمق من السلف المتفلسف ..ما دل على أثنين أو أثنتين ..كم هي الحياة بسيطة وممتعة ونحن نتعامل معها بهذا العمق البسيط الذي لا يحتاج لمصطلحات أرسطو وتعريفاته المعقدة كمسائل رياضية من الدرجة التي لم نصل لها بعد ..أنتمي إلى هؤلاء ، بحاجة إلى أصدقاء من هذا السديم ، إلى من يخبرني بأن السيل ما دل على أثنين أو أثنتين بزيادة ألف ونون أو ياء ونون ، إلى حبيبة تخبرني بأن الهواء يشغل حيزا وله كتلة ، زوجة تحدثني عن أشياء لا أساس لها من الصحة ، ولكنها تقتل في الوقت نفسه ملل العمق الذي أخرج به من الكتب عبوسا قمطريرا ..بحاجة لهم وأنتمي إليهم ..وهؤلاء العميقون فليذهبوا حيثما يحلو لهم بعيدا عنا ..هذا هو مذهبنا و هذه هي حياتنا ..وسنظل عليها شئتم أم أبيتم !
من صفحة الكاتب ب”فيسبوك”
قد يعجبك ايضا